عشت تحديات كثيرة منذ طفولتي؛ سواء في الدراسة، أو في الجيش، أو باقي المراحل، لكنني اكتشفت أن أصعب تحدي؛ لم يأتِ من الخارج، ولكن من الداخل، وكان عليّ أن أجيد التعامل معه أيضًا!!
ضغوط الأغلبية:
أنا مواطن جنوبي، مولود في شمال السودان بمدينة عطبرة؛ نشأت في أسرة مسيحية ومررت بكل المراحل السنية داخل الكنيسة؛ من مدارس الأحد، للشباب الناشئ، ومنه إلي الشباب العام، وطوال هذه الفترة كنت أشكر الله أن والديَّ لم يقصرا في تقديم الدعم لي، رغم أنهما كانوا بسطاء ومن ذوي الدخل القليل.
أما في المدرسة، فالوضع اختلف كثيرًا؛ فنحن أقلية مسيحية وأغلبية الطلبة من المسلمين؛ ولذلك اضطررنا لحضور جميع الحصص التي تدرس عن الإسلام، بل وحفظنا آيات من القرآن، ولم يتوقف الأمر عند هذا، لكن كان علينا – ونحن لازلنا صغارًا في العمر- ضغطًا كبيرًا من المسلمين المحيطين بنا، لكي نترك الحياة المسيحية وننضم للعقيدة الإسلامية.
وهنا ظهر دور والديَّ العزيزين، فكانوا يعلمونني بأننا سنستمر مسيحيين، وكانوا يكثرون من الدروس المسيحية، لكي أعرف كيف أرد على كل الأسئلة المتعلقة بها، حتى وصلت إلى مرحلة الثانوية، ثم دخلت جامعة جوبا، وقضيت بها خمس سنوات، ثم تخرجت، ومن ثم بدأت فصلاً جديدًا في حياتي.
مكان جديد:
بعد أن تخرجت، حان الوقت لكي أخدم بلدي، وأشكر الله أنه رتب لي أن أنضم إلى إحدى وحدات القوات النظامية في جوبا، وبالتحديد في وحدة الحياة البرية، وهناك وجدت الاحترام من جميع الزملاء، وكنت أتحدث كثيرًا معهم عن كيفية الحياة مع المسيح، وكيف يمكننا أن نواجه تحديات المسيحية بكل فرح.
ولأنني رجل عسكري، وكنت أعمل في مكتب إدارة الوحدة، فكان من الصعب أن أجد الوقت الكافي لممارسة عبادتي المسيحية، ولكن رتب الله أن يكون مدير الوحدة العسكرية – وهو برتبة عميد – شخص مؤمن مسيحي، فكنا نجلس معًا كل صباح، ونخصص فترات لدراسة الكتاب المقدس، بل وندعو المزيد من العساكر لمشاركتنا، لدرجة أنه عندما كان يأتي العساكر ببلاغتهم لمكتب إدارة الوحدة في الصباح الباكر، كان يتم تنبيههم على أن العاملين بالإدارة – ويقصدونا نحن – يؤدون الصلاة بالداخل، وكان هذا الأمر غريب عن المؤسسة العسكرية، وكان له تأثير كبير فيهم، وفينا نحن أيضًا.
قسوة الظُلم:
وفي يوم من الأيام، كنا في إدارة الوحدة العسكرية، وجاء إلينا أحد الزملاء بغضب شديد، متهمًا إيانا بأننا تلاعبنا ببعض الإجراءات الخاصة به، وشكك في أمانتنا وكفاءتنا، فوجدت نفسي أرد عليه، بألا يستعجل اتهامنا بهذا الأمر المقيت، لكنه ظل على غضبه، وزاد في صياحه، وبدأ يتفوه بكلمات مسيئة وجارحة ضدي.
فرددت علي بكل لطف: “يا صديقي لا يصح هذا الكلام … اهدأ وكل شيء سيسير على ما يرام”، فرد عليَّ: “أنت جبان وخائف مني، ولا تعرف من يقف ورائي، وأنا أستطيع أن أقتلك وأنت في مكانك”.
عند تلك اللحظة، شعرت بغضب شديد، وعادت بي الأمور لطبيعتي القديمة، فوجدت نفسي أرد عليه: أنا لست جبان، ويمكنني أن أتشاجر معك أيضًا، وهنا تدخل البعض ليقول لي: “يا سايمون أنت رجل دين”، فرددت: “لكنني أيضًا لست جبانًا، ثم تركته وخرجت بغضب وبحزن؛ ليس بسببه هو، أو بسببهم هم، ولكن بسببي أنا”!!
غفران مزيف:
بعد هذا الموقف تحدثت مع نفسي متسائلاً: “لماذا فعلت ذلك؟” وبعدها قمت بالصلاة، وتعهدت ألا أتكلم بأي شيء ضد الرجل الذي أهانني، وبدأت أصلي قائلاً: “يا رب أنت العليم بكل ما حدث بيني وبين هذا الرجل، وأنا قد عفوت عنه”.
ولكن رغم هذا القرار، فإنني اكتشفت أنه عندما أري هذا الرجل يدخل إلى مكتبنا، يعود إلى ذهني تلقائيًا نفس المشهد، فأتوقف عن الحديث أو الضحك، وأشعر بغضب شديد منه، ولهذا عدت بالصلاة مجددًا لله، وقلت له: “يا رب لقد عفوت عنه بالفعل، لماذا هذا الشعور يعود إلَّي مرة أخرى؟! لماذا لا أزال محبوسًا في هذا الأمر؟!”.
وفي أحد المرات، كنت أصلي، وشعرت أن الرب يقول لي: “يا ولدى، المحبة لا تحتاج إلى إذن، فعندما مات المسيح على الصليب، كثير من الناس رفضه، وهرب منه تلاميذه، ومنهم حتى تلميذيه العزيزين بطرس ويوحنا، ومع ذلك لم ينتظر المسيح منهما أن يأتوا إليه ليقولا له يا رب اغفر لنا”.
انتهاء المرارة:
وهنا أدركت خطأي الكبير؛ فقد كنت أنتظر من الشخص الذي هددني، أن يأتي هو أولاً ويعتذر لي أمام الجميع، وكأني في كل مرة أقول له: “أنا قد غفرت لك”، فأنني أذكره بما فعل بي في ذلك اليوم، وكأني أضع كل هذه الأحداث على رفوف الدولاب بالترتيب، وعندما يحين الوقت أسترجعها بالترتيب وبالأيام ذاتها.
ولما فهمت قصد الله، أن تكون طبيعتنا مثل طبيعته، وأن نعود ونتصالح حتى مع من أهاننا وأساء لنا، قررت أن أذهب إلى الشخص الذي جرحني، وتحدثت إليه، وعلى الرغم من أنني لم أكن قادرًا في البداية على مصافحته، إلا أنني قلت له: “يا صديقي آسف لما فعلته، من فضلك اغفر لي” ثم تركته وخرجت.
وعندما تفوهت بتلك الكلمات شعرت بسلام عميق في نفسي، والآن عندما يأتي هذا الشخص أو يمر بقربي، نتجاذب أطراف الحديث والضحكات، بدون أي شعور بالمرارة أو الألم.
عزيزي… لا شك أننا كبشر نتعرض لكثير من هذه المشكلات بين الحين والأخر، والتي قد تكون قاسية جدًا علينا وقتها، ولكن الفيصل ليس في المشكلة، ولكن في رد فعلنا نحن فيها، فهل سنتصرف بحسب طبيعتنا الأسرية أو القبلية؟ أم بحسب طبيعتنا الإلهية التي اكتسبناها من الإيمان بالمسيح؟
قد تكون ممسك بشخص ما أهانك وجرحك في ضميرك أو في قلبك، ولهذا أريد أن أقول لك: لا تتصرف كما تصرفت أنا، ولا تكذب في صلاتك لله أنك قد عفوت للمسيء لك، فان ازدياد عدم الغفران في نفسيتنا، يؤدي إلي المرارة والرغبة في الانتقام، وهي ثمار سيئة جيدًا.
لكننا مدعوون لغفران حقيقي، من نوع غفران الرب يسوع المسيح على الصليب، وحينها تنتصر على أصعب التحديات داخلك، وهو تحدي الغفران، ووقتها سيصفو ويتطهر قلبك، وتكون جاهزًا لاستقبال بركات الله الوفيرة في حياتك.