جاكلين آمي (عند قمة الجبل)

كانت كل المقدمات تقود إلى اليأس والفشل، فلا تربية، ولا عائلة، ولا مال، ولكن الله كان له رأي أخر، واستطاع أن يصعد بي جبال كثيرة، ولم أنزل منها كما صعدت أبدًا.
طفولة مشردة:
اسمي جاكلين مشهورة باسم “أمي” أو “أمينا”، ولدت وترعرعت في مدينة “جوبا”، ولكن بدأت مشاكلي قبل حتى ولادتي؛ فقد انفصلا والديَّ، وتربيت في أماكن عديدة وعلى يد أسر كثيرة، وفي كل مكان جديد كنت أدخله، كانت تنتظرني تحديات أكبر وأشد.
وأتذكر في يوم من الأيام، كنت أسكن مع جدتي، وقالت مرة لصاحب البيت: “ما في قروش للأكل اليوم”، فرد عليها: “وماذا عن أطفالي أنا؟! فلديَّ أطفال صغار يريدون الأكل أيضًا ويشربون اللبن”، وكانت جدتي تقول لي: “يا بنتي إذا توفيت وانتقلت، للأسف لن يكون من يعتني بك، وربما ستمرين بمشاكل كثيرة في حياتك، فلذلك لا بد أن يكون قلبك قويًا”.
وفي يوم 4 يونيو من عام 1984م، جاءني صوت في السادسة صباحًا “هذا هو اليوم الذي ستنتقل فيه جدتك”، وبالفعل عند الثامنة صباحاً تلقيت خبر وفاة جدتي، أو أمي كما كنت أناديها، وكم كان هذا الخبر صادمًا جدًا لي، ولكني تذكرت كلماتها لي قبلها بشهور، بأنه علىَّ أن أتحلى بقلب قوي، حتى أستطيع أن أواجه ما يقابلني من مشاكل.

بداية بسيطة:
بعد كفاح كبير، استطعت أن أُكمل المرحلة الثانوية في مدينة جوبا، ومن ثم ذهبت بعدها إلى كينيا، وهناك عانيت كثيرًا في إيجاد منزل لي، فجربت أن أقوم بخياطة المناديل وبيعها، لأجني منها بعض النقود، لأدفع إيجار غرفة بسيطة، وكذلك لأسدد رسوم دراسة تعليم الطباعة علي الآلة الكاتبة.
رويداُ رويداً، بعد أن تعلمت الطباعة على الآلة الكاتبة، استفسر عني الدكتور سامسون، لأنه كان يتعاطف معي كثيراً، فسألني “إلي أي مرحلة أتقنت الطباعة؟”، فأجبته بأنني أكملت المرحلة الأولية، فطلب مني أن أقوم بطباعة بعض الأوراق، ثم اصطحبني إلى مكتب الحركة الشعبية لتحرير السودان، وهناك كُلفت بالقيام بطباعة بطاقات العضوية الخاصة بالحركة، وكانت المبالغ البسيطة التي أتحصل عليها من هذا العمل، أقوم بجمعها واستخدامها في البحث عن منح دراسية في الجامعة.

معجزة إلهية:
كنت أسكن مع إحدى الزميلات التي تدرس الماجستير بالجامعة الأمريكية في نيروبي، لكنني فوجئت في يوم ما، أن تلك الزميلة أجرت الغرفة التي نسكن فيها معاً لأحد الأشخاص دون علمنا!! ولما استفسرت منها عن السبب، رفضت إبلاغي بالسبب، ولكن أخبرتني باسم المستأجر، وهو مواطن من جنوب السودان مثلنا، فلما ذهبت إليه مستفسرة عن موعد قدومه للسكن بالغرفة، أجاب: أنه سيأتي في الغد، ولم أنم طوال هذه الليلة، وأنا أفكر: كيف سأسكن؟ وكيف سأكمل دراستي؟
في صبيحة اليوم التالي ذهبت إلي مقر منظمة تسمي “برنامج تعليم اللاجئ الأفريقي”، وقد سبق وأجريت مقابلة معهم، فلما شاهدني محاسب المنظمة، قام من مقعده وحياني بيده اليمنى، وقدم لي شيك بنكي بيده اليسرى قائلاً: “هذا الشيك لك للمدرسة، خذيه واذهبي لتدفعي رسومك الدراسية في الجامعة”، وكانت معجزة بكل معنى الكلمة، خاصةً بعد أن رتب الله لي مجموعة من الشباب من جنوب السودان يدرسون في تلك الجامعة، فساعدوني في الحصول على غرفة لأسكن فيها.
ولم تكن الحياة في الجامعة سهلة أيضًا، لكن كانت إعانة المنظمة تكفي لشراء غذاء لفترة أسبوعين فقط، وأقضي أسبوعين آخرين بدون غذاء!! ولهذا جاءتني فكرة أن أقوم في أجازة نهاية الأسبوع، بطباعة الأوراق الدراسية لطلاب الماجستير لكي أحصل على بعض المصاريف، وبهذه الطريقة تمكنت من إكمال دراستي بالجامعة، ثم قمت بإعادة آلة الطباعة إلى دكتور سامسون، وشكرته، وقلت له بأن هذه الآلة قد ساعدتني كثيراً.

أعمال كثيرة:
بعد التخرج من الجامعة، عملت مع عدة منظمات؛ أولها كانت منظمة “وودرانس”، وهي معنية بتأهيل الأرامل والأيتام والمعاقين، ثم تركتها بعد عشرة أشهر، ومن ثم التحقت بمسح ميداني عن المرأة في جبال النوبة، وقضينا بها ستة أسابيع نتحرك فيها على الأقدام لمسافات طويلة.
بعد ذلك وجدت عمل مؤقت مع المرحوم دكتور سامسون، وهو تدوين بعض محاضر اجتماعات الحركة الشعبية، والتي غالباً ما تبدأ من الساعة الثالثة بعد الظهر، وتستمر حتى الساعة التاسعة مساءً، ومنها وجدت عمل مع منظمة عون الشعب النرويجي لفترة ثلاثة أشهر؛ حيث كنا نقوم بتوعية المواطنين حول فيروس نقص المناعة المكتسبة وغيره من الأمراض.
وفي يوم من الأيام جاء عدة أشخاص ليبلغوني أن هناك مكتب جديد للمنظمة، ويطلبون مني أن أجلس فيه، حتى يتم التوقيع على السلام، وبالفعل حدث هذا الأمر، فتم السلام، وكونت الحكومة، وعملت فيها حتى عام 2008م، وفي نفس الوقت كنت أدرس الماجستير على نفقتي الخاصة، ومن ثم تم نقلي إلي جوبا كمستشار فني مع الحركة الشعبية.

سنين عجاف:
بعد مرور بعض الوقت، حدث سوء تفاهم بيني وبين أحد كبار رجالات الجيش، وتم إيقافي عن العمل لفترة سبعة سنوات، وخلالها كنت أتقدم بطلبات للعمل في جهات عديدة، لكني لم أوفق في أيًا منها، فقررت أن أقوم ببعض الأعمال البسيطة؛ مثل بيع بعض المواد الغذائية، وملاءات الأسرَّة، وحتى لحظة حديثي معكم الآن، فلدي كمية من الملاءات قد وصلت للتو إلي الميناء البري، وعلى أن أجلبها، لأنه هناك مؤسسة في جوبا طلبت كميات منها.
وفي العام الماضي، تقدم زوجي بطلب لوظيفة بمجلس كنائس جنوب السودان، وقبل أن تُجرى أي مقابلات معي بخصوص هذه الوظيفة، كانت هنالك صلوات للاحتفال بذكرى اليوم العالمي لمعاناة المرأة، وتم دعوتي لحضور تلك الصلوات، مع دفع مبلغ خمسمائة شلن عبارة عن رسوم الاشتراك.
وعلى الرغم من ترددي في الذهاب لهذه المناسبة؛ حيث أنني لا أملك مبلغ رسوم الاشتراك، إلا أنه في المساء هاتفتني الدكتورة جين فرانسيس منظمة اليوم، وأبلغتني بأنها قامت بدفع رسوم الاشتراك الخاصة بي، وذهبت فعلاً في الصباح إلى مكان يسمي “الرحمة الإلهية” الواقع بمنطقة مشاكوش أسفل الجبل، وصعدنا الجبل ونحن نصلي.

صلاة الجبل:
وعند قمة الجبل، تلقينا بعض الدروس من قبل أحد القسس، وهو يقول: إن النساء في العالم هن من يتحملن العبء الأكبر، ثم قدم لنا الخادم بعد ذلك ترنيمة خاصةً، تقول كلماتها: “أمسك بيدي يا رب، أمسك بيدي إلى السماوات، أمسك بيدي يا رب”، وبالفعل لمست قلبي هذه الترنيمة بشدة، ثم طلب منا، أن تجلس كل واحدة على قمة هذا الجبل، وتترك كل المشاكل التي تؤرقها للرب يسوع.
فنظرت إلى أسفل؛ حيث مدينة مشاكوش تحتي، وصليت وقلت: “يا رب، حتى لو كانت مشاكلي بحجم هذا الجبل، فها أنا اليوم قد صعدت لهذا الجبل بسهولة وبلا تعب، وإذا كانت مشاكلي نتيجة لقماش تم ربطي بها، يا رب هذه القماش أصبحت قديمة طيلة هذه السنوات السبعة، فمن فضلك مزقها”.
وهكذا صليت وكنت أبكي في صمت، ثم بعد ذلك انفجرت في الضحك!! لأنني رأيت بقية النساء يصرخن بصوت عال، فقد كنت أعتقد أن مشاكلي هي الأكبر والأثقل، لكن يبدو أن هنالك بعض الناس لديهم مشاكل أثقل بكثير من مشاكلي.
وبعد نهاية الصلوات نزلنا من قمة الجبل، وسألتني الدكتورة جين فرانسيس: “يا بنتي، كيف كانت هذه الصلوات؟” أجبتها: يا أمي هذه هي نفس الصلوات التي كنت أفكر فيها في عقلي، لكن لم أكن أدرك كيف ومتى سأخرجها لله”، فردت الدكتورة جين: “لقد كانت خطة الرب لك أن تأتي هنا اليوم”.

استجابة الله:
كان ذلك في يوم السبت، وفي يوم الأربعاء التالي، تلقيت مكالمة هاتفية من قبل مجلس كنائس جنوب السودان، لإجراء مقابلة معي في اليوم التالي، فقلت لهم: “أنا في نيروبي، فإن كنتم تسمحون بتأجيل إجراء المقابلة ليوم الاثنين فذلك سيكون جيد معي”! فرد المتصل بأنه سيتواصل مع اللجنة المختصة ومن ثم يفيدني.
بعد ذلك تضرعت للرب قائلة: “يا رب إن كنت تريد أن تعطني هذا العمل، لكي أخدم شعبك، فلتوافق اللجنة على إجراء المقابلة يوم الاثنين، لكن إذا كان هذا العمل ليس بإرادتك، فلترفض اللجنة”.
وبعض فترة تلقيت مكالمة من مسئول شؤون الأفراد مستفسراً: “متى ستحضري يوم الاثنين؟” فأجبته” سأكون متواجدة بمكتبكم عند الساعة التاسعة صباحاً”، وبالفعل أتيت وأجريت المقابلة، ومن خوفي استخدمت القليل من معرفتي في الامتحان التحريري، وانتظرت النتيجة التي ستظهر بعد 24 ساعة، ولكنها لم تظهر لمدة أسبوعين!!
عدت من جوبا إلى كينيا يائسة، وفي يوم من الأيام بعد الغداء، طلبت مني ابنتي، أن تقوم بالنظر على بريدي الالكتروني، لأنها لم تقم بذلك خلال الأيام الماضية، وأنا كنت قد وصلت لمرحلة لا أكتب فيها أي بريد إلكتروني.
وعندما فتحت ابنتي بريدي الالكتروني، قالت لي: “مبروك يا أمي لقد تحصلت على الوظيفة”، فقلت لها: “ماذا تقولين؟”، فقالت “لقد تحصلت على الوظيفة في مجلس كنائس جنوب السودان”، فقلت: :يا الله، فلتكن إرادتك”، وحمدت الله في قلبي على استجابته لصلاتي، وعلى نجدته في ضيقاتي، وعرفت أن الله يستطيع أن يصنع بأي إنسان المستحيل، بشرط أن يكون أمين، ومسئول، وصادق.