تعرضت لأمور صعبة جدًا، كانت كافية لتدمير حياتي بالكامل؛ فأي رجاء لأعمى فقير يتيم في هذه الحياة؟! لكن بلقاء فريد، تحولت لأنشر نور البصيرة للقلوب، والذي يُغني عن نور البصر للعيون!!
صدمات متتالية:
اسمى هو بيتر (بارا) يوبو تينيا جابولمارنجوا، ولدت في منتصف ستينيات القرن الماضي، وبدأت دراستي بمدرسة واو Wau للبنين، ولكني درست فيها سنة واحدة، ثم نقل والدي إلى مدينة Juba جوبا، وهناك واصلت دراستي في المدرسة الابتدائية ثم الإعدادية، ثم ذهبت إلى المدرسة الثانوية في مدينة Malakalملكال، وأديت امتحان الشهادة السودانية للمدارس العليا في شهر نيسان (أبريل) من عام 1981م.
في يونيو من عام 1982م، رحل والدي العزيز، وبعد ثلاثة أشهر، أصبت بمرض في عيني، في الوقت الذي كنت استعد فيه للدراسة الجامعية، فذهبت إلى مدينة الخرطوم لإجراء بعض الفحوصات الطبية على عيني، وهناك أخبرني الطبيب أن الأمور تأخرت كثيرًا، وأنه سيحاول جاهدًا إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهكذا أجريت عملية دقيقة في العين، بعد أن فقدت العين الأخرى التي تعرضت للتلف الكامل!!
ولم تأتِ المصائب فرادى، لكن بعد وفاة أبي، وفقداني تدريجيًا لبصري، توفى من بعده أخي الأكبر، ثم أختي الصغرى، وتدهورت حالتي النفسية، وأصبت باكتئاب شديد وحزن دفين.
وحدة قاسية:
وما كان يهون عليَّ القليل خلال تلك الفترة الصعبة، وأنا عاجز بسبب مرضي، هو مرافقة بعض الأصدقاء لي في أغلب أوقات يومي؛ فقد كانوا كانوا اليد المعينة الممدودة بالرحمة والعناية.
ولكن للأسف في عام 1992م، قامت في السودان مجاعة جوبا المروعة، والتي راح ضحيتها الكثير، وفي نفس العام دخل الجيش الشعبي لتحرير السودان مدينة جوبا، ثم تعرضت حكومة “الإنقاذ” لمحاولة انقلاب أخرى بقيادة العقيد أحمد خالد، وبسبب المجاعة والحرب فقدت الكثير من أصدقائي ومعارفي، وغدوت وحيدًا شريدًا بلا صاحب ولا خليل.
وأصبحت مدينة جوبا تشبه مدينة الأشباح، فانتقلنا أنا وعائلتي من الجنوب إلى الشمال، وهناك اعتقلتني سلطات الأمن، لكنهم أطلقوا سراحي بحجة عدم معاقبة فاقدي النظر، بعد أن نصحوني بالابتعاد عن السياسة.
فعدت إلى منزلي منهك القوى، محطم النفس، مكسر الأطراف، لكنى تذكرت نصيحة صديق راحل، أن أنضم للكنيسة، وأحاول أن فهم إرادة الله في حياتي.
لقاء التغيير:
بالفعل ذهبت إلى أحد رعاة الكنائس، وقصصت علي حياتي المأساوية، وصلينا سويًا، وقررت حينها أن أسلم حياتي للرب يسوع المسيح، ونصحني هذا الراعي بحضور اجتماع لدراسة الكتاب المقدس في كاتدرائية “جميع القديسين”.
في البداية كانت لديَّ أسئلة كثيرة لله، وكنت أعاتبه بشدة قائلاً: “لماذا تسمح بالآلام والتجارب والكوارث؟ هل تكون سعيدًا بهذه الأمور؟ لماذا سمحت أن أفقد بصري وأصدقائي وأغلب عائلتي؟ لماذا تصمت يا الله؟ لماذا لا تبالي؟!
ولكن لما تعمقت أكثر في دراسة الكتاب المقدس، وقرأت ما قاله المسيح لتلاميذه: «في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا: أنا قد غلبت العالم» (يوحنا16: 33)، أدركت أن ما يدور حولنا من أحداث صعبة؛ سواء عنف أو دم، أو دمار، أو ما نجتاز في من آلام الظلم والغضب، ليس أمرًا غريبًا، ولكنه طبيعيًا طالما نحن في العالم.
وكل ما علينا، أن ننتبه لله؛ المصدر الوحيد لتعزيتنا وقوتنا وتشجعينا؛ لأن «الله لنا ملجأ وقوة. عونًا في الضيقات وُجد شديدًا، لذلك لا نخشى ولو تزحزحت الأرض، ولو انقلبت الجبال إلى قلب البحار … رب الجنود معنا. ملجأنا إله يعقوب. (مزمور46: 1،2،11).
انطلاق المقيد:
مع نموي الروحي، ومواظبتي على سماع الإنجيل المسموع، تغيرت حياتي بالكامل؛ فنسيت حقيقة كوني كفيف، وأصبحت أكثر سعادة من كثير من الأصحاء، وبدأت أعي أن الحياة مجرد رحلة ونحن عابرين في ثناياها، وشرعت أشجع الكثير ممن في حالتي، وأعزي وأطيب قلوب المتألمين حولي.
وفي عام 2008 سمعت صوت الله يشجعني أن أبشر بكلمة الله من فوق المنبر، وأن أشارك في المؤتمرات الكنسية، فبدأت العمل في خدمة الله بقوة الروح القدس، ورغم أنني كنت ضعيف ومقيد بالحروب الجسدية، لكن الله حررني من ضعفي، وخلق مني إناء جديد، وأعطاني قوة للتغيير.
نور الحياة:
وحينها تذكرت شخصية بارتيماوس المولود أعمي، الذي كان يبحث عن الرب يائساً، وصرخ إليه حتى يسمع، رغم أنه يمكن أن يشك في جدوى صراخه للمسيح، ولكن صراخ بارتيماوس جعل الرب يسوع يتوقف، رغم الحشد الكبير الذي كان يتبعه، ولكن مجرد صراخ الأعمى الفقير المُستعطي، كان مقدرًا عند المسيح.
عزيزي … لا تمكث حبيسًا لأفكارك وآلامك وظروفك، ولا تستسلم ليأسك الذي يمنعك من الصراخ لإلهك، ولكن امض وحطم كل تلك القيود، فما الذي أفادتك به؟ أصرخ كما فعل بارتيماوس الأعمى: “يا يسوع ابن الله، ارحمني”، وثق أن الرب يسوع المسيح سيتوقف لأجلك شخصيًا، كما فعل مع بارتيماوس، وسيعطيك ما أنت بحاجة إليه؛ وهو نور الحياة وليس مجرد نور البصر.
أما إذا كنت قد قبلت المسيح في حياتك، فعليك أن تعلم أن العالم بالفعل وُضع في الشرير، ونحن نعاني هنا على الأرض بسبب ذلك، ومن الجميل أن نتذكر، أن الله يعطينا المعونة الكافية، وهو السيد العلي المتسلط على كل هذا الكون، والأجمل أن نتذكر أيضًا أن موطننا الأساسي ليس هنا على الأرض، وإنما في السماء؛ حيث لا دموع ولا فراق ولا مرض ولا خطية، وقريبًا جدًا سيكون موعد لقاء عريسنا، وهو نفسه موعد نهاية أي معاناة في حياتنا.