تسير الحياة على وتيرتها، ما بين الصعود والهبوط، حتى تأتي لحظة صادمة، تكثر فيها الأسئلة، وتزداد فيها الهموم، ولكن الله يفتح مداخل أخرى، تُدخل الرجاء والفرح من جديد!!
عام فاصل:
اسمي “أنجلو ويلو أقوا”، من مواليد عام 1973م، كبكر لأسرة غير مسيحية مكونة من ولدين وبنتين، بمنطقة “فشلا” الواقعة بولاية “بوما” حالياً، وهي إحدى مقاطعات جنوب السودان، ولم أكن أعرف شيئًا عن المسيحية، حتى دخلت المدرسة، وتعرفت على أهم مبادئنا هناك.
واستمر هذا الأمر، حتى جاء عام 1999م، والذي فيه تغيرت حياتي بالكامل، وقد كنت قد أكملت مرحلة الشهادة الثانوية، وأديت الخدمة الوطنية، وكان يتبقى لي الدراسة الجامعية، ولكن فجأة توفى والدي، ولم أدخل الجامعة بعد، وكانت أصعب فترة في حياتي، لأن الحِمل كان عليَّ كبيرًا بصفتي بكر الأسرة.
تذكار التضحية:
عندما توفى والدي بكيت كثيرًا، ليس فقط بسبب تعلقي الشديد به، ولكن لأنه ضحى بحياته لأجلنا، فبالرغم من أنه لم يدخل إلى المدرسة، إلا أنه ضحى بحياته ليدخل الجيش السوداني، واستمر فيه لمدة عشرين سنة، وكان يقول لنا أن السبب الذي جعله يستمر في الجيش طوال هذه الفترة، أن يوفر لنا المال اللازم لإرسالنا للتعليم.
ولا أنسى كلام الوالد لي ولإخوتي في أحد المرات قائلاً: “عندما تأتي ساعة مماته، فإنه يحب أن يرى أن أعيننا قد انفتحت على الحياة، لأننا الآن كالجرو”، وفهمنا بعد موته، أنه كان يقصد بذلك التشبيه، الوصول لمرحلة المسؤولية الفردية والاعتماد على النفس.
وعندما كنت أتذكر كلمات والدي قبل وفاته، كنت أبكي كثيرًا، خاصةً أن العلاقة بيننا كانت قوية جدًا، وهو خير مثال للأب الذي يضحي من أجل أبنائه، وكنت أنتظر حتى أنهي الجامعة وأعمل، لكي أساعده في أعباء الحياة، وأرد له الجميل لما فعله من أجلنا، لكن للأسف لم أتمكن من هذا، وبوفاته انتهى كل أمل ورجاء.
تحديات كثيرة:
بعد الصدمة الكبيرة التي حدثت لي، بدأت أسأل أسئلة صعبة: “لماذا يموت الإنسان؟ وإلى أين يذهبون بعد الوفاة؟ ولماذا مات أبي بالذات وتركنا في هذا الوضع؟”، بالإضافة للأسئلة التقليدية: “كيف سنكمل حياتنا بدون أبي؟”، و”هل سنتمكن من استكمال تعليمنا؟”، “وكيف سنوفر المال اللازم لنا؟”.
ولأني لم أجد إجابات شافية لكل هذه الأسئلة، انتظرت مرحلة جديدة بأمل جديد، وقد بدأت فعلاً دراستي بالجامعة، وقررت أن أتحمل مسؤولية الأسرة، رغم أني بلا عمل ولا دخل، وكان الجميع يتطلع إليَّ لأُكمل مسيرة تضحية والدي، ولكي أكون لهم العائل والضامن.
بدايات النور:
بدأت الأمور تتقدم قليلاً في أسرتي؛ فنظرًا لانشغالي في الدراسة بالجامعة، أوكلت لأخي الأصغر متابعة معاش والدي، وحقوقه المادية بعد وفاته، وبالفعل سلمني أخي هذه الأموال، فاجتمعت معه، ومع باقي أخواتي الأخريات، وتدبرنا فيما يجب أن نفعله.
ثم اقترحت على إخوتي، أن نقوم بشراء منزل للأسرة، لأنه لم يكن لنا منزل خاص حتى هذا الوقت، وتم الأمر بالفعل، وبعد أن استقرت الأسرة، تفرغت أنا للدراسة الجامعية، وأكملتها بعد أربع سنوات، ثم عملت لمدة أربع سنوات أخرى، وخلال هذه السنوات، تمكن أخي الأصغر من الحصول على وظيفة، وأصبح سند لي وللأسرة كلها.
وبعد ذلك، أصبحت خادم في الكنيسة، ومن ثم فكرت في الزواج في عام 2017م، وتباعاً تزوج أخي، ثم أختي الصغرى، وأصبح العبء علينا خفيف بعض الشيء، وتبقي لنا مسؤولية الوالدة وشقيقتنا الصغرى، فقمنا بتخصيص جزءً من المنزل الذي قمنا بشرائه للإيجار، لمساعدة والدتي وأختي لتلبية مصروفاتهما الإضافية.
انتهاء المخاوف:
بعد أن أصبحنا نحن الثلاث؛ أنا وأخي وأختي المتزوجة نساهم في دعم الوالدة والأخت الصغرى، تغيرت الحياة بعض الشيء، وتبدد الخوف تدريجيًا، لأن أعيننا قد تفتحت كما كان يقول والدنا الراحل.
حدث كل هذا في إطار السودان القديم، وقبل استقلال جنوب السودان، وأتينا إلي أرض الوطن بطموحات وآمال كبيرة، وكان لدينا حماس عالي لبناء بلادنا من جديد.
ولكن للأسف كل هذه الآمال تحطمت مع اندلاع النزاع في عام 2013م، وفضل الكثير من الجنوبين السودانين أن يتركوا البلاد بحثاً عن الأمن والاستقرار، وكنت أنا وأسرتي منهم.
ولكني أثق أن الله الذي كان معنا طوال هذه السنين الصعبة، فإنه سيوجد لنا أمل ورجاء، ويكون هو مصدر الأمان والسلام والطمأنينة، وهذا بمثابة تشجيع لكل إنسان جنوبي سوداني، قد يعاني مما عانينا به نحن، فالمعاناة قد تكون هي طريق الأمل، والموت قد يكون بداية لحياة أخرى أفضل.