إليساما واني دانيال (من اللعنة للبركة)

كانت كل السبل تقود إلى الفشل، فلا أب يدعم، ولا عائلة تعطي، ولكن عندما يصدر الله المشهد في حياتي، حول الشر إلى خير، والفشل إلى نجاح، واللعنة إلى سيل من البركات.
أمر مفقود:
رغم أنني في ولدت في عائلة مسيحية، وكنا نقرأ الكتاب المقدس ونصلي بانتظام، وكنت أذهب مع سائر الأطفال كل يوم أحد إلى الكنيسة، ولا نعرف في منزلنا أي ذكر للسجائر أو الكحول، إلا أني كنت أشعر بفراغ عميق داخلي، وأنني أفتقد أمرًا هامًا جدًا، وكنت غير متأكدًا بالمرة من خلاصي وغفران خطايا.
واستمر هذا الحال، حتى ذهبت إلى مؤتمرين للشباب نظمهما اتحاد الكتاب المقدس في ثمانينيات القرن العشرين؛ مؤتمر في “رجاف” وأخر في “ياي”، وكانت نقطة التحول الكبرى في حياتي؛ حين قرأت آية من رسالة يعقوب تقول “ارتكاب خطيئة واحدة تجعلك مخطئا في كل شيء” (يعقوب 2: 10).
بعد أن قرأت هذه الآية، فهمت أنه لا يوجد فرق بيني وبين الشخص الذي يرتكب عدد كبير من الخطايا والفجور، ولهذا قررت في هذا المؤتمر أن أطلب من الله الخلاص والغفران، وأعلنت أنني أقبل الرب يسوع المسيح مخلصًا شخصيًا لحياتي، وكان ذلك في عام 1986م، ومن يومها تغيرت حياتي بالكامل.

قسوة أب:
خلال دراستي قام والدي بنقل الأسرة من أوغندا إلى جنوب السودان خلال الحرب الأهلية الأولى، ومن هناك كان يعطينا بعض المساعدة ومن ثم يعود هو إلى أوغندا، ولكن الشيطان خدعه، وجعله يتزوج من امرأة ثانية جعلته يتخلى عن عائلته، ومن وقتها فقدنا الحب الذي اعتدناه منه؛ فكثيرًا ما يتشاجر مع والدتي، وكان يقول عني أنني لست ابنه الشرعي، وكان يقول لي: “سوف ألعنك في هذا العالم، وألن تتمتع بميراثي أبدًا، وسأقدمه لأخيك الأصغر سنا”.
كان هذا الأمر مؤلماً جدًا لي، لأنني اختبرت حب كلا الوالدين عندما كان منزلنا لا يزال واحداً، وأصبحت حياتي مرتبكة جدًا، وقلبي مملوءًا بالمرارة تجاه والدي، وقلت: “إنني لا أريد أبًا مثله”، واعتبرت نفسي يتيماً رغم أنه حي.
وعندما قبلت الرب يسوع المسيح مخلصًا شخصيًا لحياتي، كان أول شيء أطلبه من الله، أن يجعلني أحب أبي، ولم يكن الأمر سهلاً في البداية، لكنني طلبت من الله أن يمنحني القوة لكي أغفر له، وأحترمه من جديد.

معاناة التعليم:
كانت حالتي المادية شديدة القسوة، فعندما كنت في مدرسة لوكا الثانوية، لم يكن لدي أحد يدفع رسوم المدرسة؛ فقد تملص أبي من واجباته نحوي، ولهذا بدأت في البحث عن عمل، فيمكنني أن أنظف المنازل، أو أقطع الأشجار، حتى وجدت فرصة عمل كصبي، في مزرعة خواجة (رجل أبيض) مقابل القليل من المال.
وكان “الخواجة” لطيف جدًا معي، وقال لي”بينما أنت تعمل، لا مانع من أن تبحث عن مدرسة جيدة لتتعلم بها”، فذهبت إلى مدرسة في جوبا، وقالوا لي: :لابد أن تعيد الفصل الدراسي الثاني”، ولكني قلت: “لا لن أعيد”، وتحولت إلى مدرسة بعد الظهر أخرى، وقبلوا انضمامي لهم، وهكذا كنت أعمل وأدرس في نفس الوقت، حتى نجحت في إنهاء شهادة المدرسة الثانوية السودانية.

نجاح شامل:
ثم بدأت دراستي الجامعية، وبدأ الله يقوم بعمله في حياتي، ورغم أنني كنت وحيدًا لكن كان الله بجانبي؛ يساعدني ويوجهني، وكان لدينا جمعية دراسة الكتاب المقدس بجامعة جوبا (JUBSA)، وكنا نشارك الكتاب المقدس مع الطلاب غير المسيحيين وأطفال المُعلمين، وبعد فترة وجيزة بدأنا مجموعة زمالة طلاب الجامعات المسيحية (FOCUS)، في محاولة لمساعدة الكنيسة في نقل الخدمات بين الأديان المختلفة.
كنت خلال دراستي أضع الله أولاً أمامي، وكان زملائي يعتقدون أنني لن أستطيع اجتياز الامتحانات، نظرًا لانشغال وقتي في الخدمة، ولكن عندما كانت تعلق النتيجة خارجًا، كانت تظهر عالية وجيدة جداً، وتخرجت من جامعة جوبا بمرتبة الشرف، ثم بدأت في العمل مع هيئة Operation Mercy (OM) في الخرطوم، لخدمة الأشخاص النازحين داخليًا في جميع أنحاء المدينة، ثم أتيت إلى جنوب السودان، وانضممت إلى الحكومة في لجنة مكافحة الفساد، وعملت لفترة مع منظمة ACROSS، وتزوجت من إيفا صموئيل لوباي، وأنجبنا أربعة أطفال؛ دانيال وأبيجايل ولوسي وصموئيل.
وعلمني الله حقيقة غالية؛ في أنه طالما نجحت في الأمور الأهم (الروحية)، فسوف يتبعني النجاح أينما ذهبت، ولكن كان لا يزال أمرًا واحدًا لم أنجح فيه، وهو غفراني لأبي عما ارتكبه في حقي، وحق باقي الأسرة.

ظهور الثمر:
ورغم أن الحرب الأهلية فصلت بيني وبين أهلي؛ فهم في أوغندا وأنا في السودان، إلا أنه في أحد الأيام، أتيحت لي الفرصة لحضور مؤتمر FOCUS في كينيا، واشترى المنظمون لي تذكرة سفر من نيروبي إلى كمبالا، فذهبت لأرى أمي وأخوتي وأخواتي في مخيمات اللاجئين، وأيضاً لرؤية والدي.
وعند رؤيتي لأبي، قلت له: “أريد أن أقول لك أمرًا واحدًا، وهو أنني قد غفرت لك، وأنا أحبك”، فانهار في البكاء، وقال لي: “يا بني لقد فعلت أشياء سيئة لك، أرجوك سامحني على كل ما فعلته”، وقضينا ساعتين مع بعضنا البعض، وبعد أن انتهينا صلينا معًاـ ثم عدت إلى نيروبي، ومنها إلى الخرطوم، وتيقنت أن الله أعد هذا الوقت لكي نغفر لبعضنا البعض.
ومن ذلك الوقت تعلمت أنه عندما تدخل محبة الله لقلوبنا، فإنها تمنحنا القدرة على الغفران، وهذا ساعدني في الخرطوم؛ فقد كان هناك عداوة بين الجنوبيين والشماليين، وكان العرب يهينون الجنوبيين ويسمونهم بالعبيد، فكشف لي الله أن أحب إخواني العرب بنفس الحب الذي أكنه لأبي، وهذا أثر في كثير منهم، وأصبحوا مسيحيين حقيقيين من يومها، بل وكانوا ثابتين في الإيمان المسيحي، عندما وقع عليهم اضطهاد شديد، حتى أن بعض الكنائس كانت تخاف منهم، ولكن الله ثبتهم.