سيارلينو مشاري (خطوة إيمان)

كانت ليلة صعبة، الضربات تأتي من كل جانب، والاتهامات تكال لي من كل الأطراف، لكن بقدر الألم الشديد حينها، يقدر أبواب البركة التي فُتحت لي فيها، وكانت بداية لمعجزات إلهية لم تنتهِ في حياتي!!
ليلة صعبة:
اسمي سيترلينو سبريانو مشاري، من مواليد 1964م، درست الابتدائي بسانت تريزا بتوريت، ثم انتقلت إلى مدرسة سوبيري الثانوية بمدينة جوبا، وفي عام 1985م انتقلت إلى مدينة الخرطوم، وعشت فيها فترة طويلة، وكنت أعمل بالمعونة الأمريكية، و كنت إنسان شرَّاب للخمر، وكنت أسكر لدرجه مبالغ فيها.
توغل المسكر في كل جسدي لدرجة أنني صرت مجنونًا، ووصلت ذروة هذا الجنون في ليلة 24 ديسمبر لسنة 1990م، حين زرت مدينة بورتوسودان لأول مرة، وخرجت من المنزل في الثانية صباحا، ودخلت بيت لناس أغراب في النوبة, وكنت أعتقد بأنه بيت خالتي، فنادى صاحب البيت على دورية مرور.
ولما جاءوا أخرجوني خارجًا وقاموا بضربي ضربًا شديدًا من الثالثة حتى السادسة صباحًا، وحفروا حفرة في الأرض ووضعوا فيها خشبة وقاموا بربط يدي من الخلف، تم علقوني علي الخشبة، وصبوا ماء بارد عليَّ لأستفيق، وكنت لا أدري ماذا يحدث لي.
ولما اعتقدوا أنني مت، قاموا بإنزالي من علي الخشبة، وكنت أسمع ما يقولونه عني؛ البعض كان يقترح إدخالي داخل شوال، وأخريين انتظروا حتى يعرفوا اسم قبيلتي، فسألوني: “يا زول إنت اسمك منو؟ ومن أي قبيلة؟”، فقلت لهم: من قبيلة اللاتوكا، قالوا: اللاتوكا لا يسرقون “، ولما وجدوا معي تذاكر السفر من الخرطوم لمدني لكسلا لبورتوسودان، تأكدوا بأنني ضيف في المدينة، وقرروا إخلاء سبيلي.

أزمة جديدة:
بعد أن تركوني، وأنا أتألم من ضرباتهم لي، ووجهي كان متورمًا جدًا، فوجئت بامرأة تأتي بسرعة وقالت: “لا تطلقوا سراح هذا الشخص، لأن هذا الشخص قام بسرقة بيتي، وأخذ الملابس و الملايات”.
فوجدت نفسي أقول من شدة الخوف: “نعم أنا قمت بذلك”، وطلبت منهم أن يرافقوني إلي البيت، وكنت أريد من وراء هذا الاعتراف المزيف، أن يعرف إخوتي و أمي مكان تواجدي.
وبالفعل بعد أن وصلنا البيت، وجدت خالتي وإخوتي ومعهم رئيس اللجان، فسألوا الشرطة: “ما هي مشكلة هذا الشخص؟ نحن نبحث عنه من البارحه”، فقالوا لهم: “هذا الشخص قام بسرقة ملابس”، فقلت لهم أنا: بصراحة لا أعرف ما يتحدثون عنه، لكن لما جاءت هذه المرأة لتتهمني بالسرقة، قلت لهم من شدة الخوف إني فعلت ذلك، وأتيت بهم إلى هنا، حتى تعرفوا مكان اختفائي منذ أمس.
أصروا بأن نمشي للبوليس, وهناك تم فتح بلاغ ضدي، وبعد أن أدليت بأقوالي وضعت في الحبس، ثم تكلموا مع المرأة قائلين: “لقد أدخلتي هذا الشخص في مشكلة، فإذا مات في السجن ستتحملين المسؤولية عن ذلك”، فخافت المرأة المشتكية، وقالت أنها ستذهب إلى البيت، ثم ستأتي بدليل سرقتي لها، ولكنها لم تعد، فتأكدوا من كذبها، وتم إطلاق سراحي أخيرًا، لكنني ظللت راقداً في البيت حوالي أربعة أيام، وأنا غير قادر على الحركة، ووجهي متورم، ومازلت مصدوم مما حدث لي.

طلب الغفران:
بعد أن تحسنت حالتي الصحية، قدمت للعمل في شركة سيليني، وكان ذلك في يوم 8\1\1991م، وبعد ثلاثة شهور أخذت إجازة، ورجعت مرة أخرى إلي بورتسودان، وذهبت لخالتي وطلبت منها مرافقتي إلي ذلك البيت الذي دخلت عليه وضُربت فيه، فسألتني: هل ما زلت تتذكر البيت؟”، قلت: “نعم”، وذهبنا أنا وزميل لي، وهناك التقيت المرأة “حليمة” وزوجها “تية”.
وبعد التحية سألوني: “ماذا تطلب؟”، قلت: “بالتأكيد أنتم قد نسيتموني، أنا اسمي سيترلينو؛ الشخص الذي قمتم بضربة بشده منذ شهور، وقمتم بتسليمي للبوليس، أتيت فقط لأطلب منكم العفو و الغفران، فمجيئي في تلك الليلة كان في وقت غير مناسب، وبلا أي سابق معرفة بيننا، وبسبب الظلام دخلت إلى ذلك البيت معتقدًا أنه بيت خالتي، وكنت أول مرة أزور فيها بورتسودان، وبسبب ما جرى في تلك الليلة، اتخذت قرارًا لا رجعة فيه، وهو ألا أتعاطي الكحول محددًا”.
فوجدت المرأة والرجل يبتسمان لي، ويقولان: ” ما في مشكلة، بل نحن نتأسف لك عن كم الضرب الذي حدث لك”.

بداية الخدمة:
في عام 2003م، ذهبت لأدرس بكلية اللاهوت بمصر، بعد أن ولدت ولادة ثانية من الله، وبعد أن أتممت دراسة اللاهوت، عدت إلى جنوب السودان، وتم رسامتي قسيسًا، وكنت أخدم في السجون، وقد استخدمني الرب في عام 2010م بتعميد 57 شخص في سجن جوبا، وكذلك 57 شخص بسجن توريت.
وتزوجت من مدام “إليس”، ومكثنا سبعة عشر عامًا بدون إنجاب، وكانت أمي تطلب مني أن أتزوج بامرأة ثانية لأن زوجتي لم تنجب، فقلت لها: “لن أتزوج بامرأة أخرى أبدًا”، حتى أم زوجتي جاءت من الخرطوم، وأقامت معي في القاهرة ستة أشهر، وهي تطلب مني أن أتزوج على ابنتها، لكن كان قراري الثابت: أنا سأظل مع هذه المرأة إلى النهاية”.

حدوث المعجزة:
وفي شهر أكتوبر من عام 2012م، حبلت زوجتي بعد سنين طويلة من عدم الإنجاب، و في يوم 9\7\2103م (يوم استقلال جنوب السودان) باركنا الرب بمولود الساعة 8:30 صباحًا”.
فقمت بالاتصال فورًا تلفونيا بوالدتي، فطارت من الفرحة، ثم بعد ذلك صلت أمي لله قائلة: “يا رب الذي يعبده ابني، سوف استمر معك، أريد أن أسلم حياتي إليك”، ومن يومها ولدت أمي ولادة ثانية.
وأيضًا والدة زوجتي، كانت تشرب الخمر بإفراط، فلما علمت بخبر حمل زوجتي، أخذت خطوة التوبة، وصلت لله: “يا رب الذي تعبده نسيبتي وبنتي سأستمر أنا أعبدك أيضًا”، وأضافت لنا هذه الاختبارات أفراحًا مضاعفة، بالإضافة لفرحنا الكبير بالمولود الذي أكرمنا به الله.
عزيزي .. هذه قصة قصيرة واختبار بسيط حكيته لك، ولكن لو لم أخذ خطوة بالإيمان نحو الله، وأترك شرب الخمر إلى الأبد، لما وصلت إلى هذه الدرجة، ولما انفتحت أبواب كثيرة من البركة في حياتي، فأنا الآن مطران كنيسة أفريقيا الداخلية، وكلما أزور العائلة التي ضربت عندها في بورتسودان، كلما تذكرنا البركة التي سمح الرب لي من خلال ذا الضرب، ومازالت البركات تسير معنا، والله يستطيع أن يفعل معك الكثير، لو أخذت ذات الخطوة هروبًا إليه، وليس هروبًا منه.