عاصرت أصعب الحروب، وتحركت تحت قصف المدافع، ولكن في هذه الظروف الصعبة كانت لدينا فرص للوصول إلى الناس، ولخلق نماذج للتعايش مهما اختلفت القبائل أو الأديان.
تشكيك نسب:
أنا مولود بمنطقة “أوفاري” بمقاطعة “مقوي” بولاية “توريت” في عام 1936م، كان أبي يعمل مع تاجر أغريقي في متجره، وذات يوم اتهم والدي من قبل أحد الأشخاص، بأنه قد أخذ نقود من المتجر، فسجن أبي، وكان ذلك قبل حملي في بطن أمي، فلما ذهبت أمي لزيارته في السجن، ظن أبي أنني طفل لشخص آخر، وقام بركلها في البطن لكي تجهضني جنينًا.
لكن أمي تضرعت إلى الله بصلاة في شدة قائلة: “لا تجعل هذا الطفل يجهض، لكي أثبت أنني لم أقوم بأي شيء خطأ، ساعدني يا رب”، وبالفعل بعد ولادتي، كنت شبيه أبي تمامًا، ومن ذلك الوقت بدأ يحترم أمي من جديد، ويتأكد بأنه كان مخطئًا في ظنه الآثم بها.
في عام 1940م، تم إرسال أبي مع مجموعة كبيرة إلى منطقة “كاتيرى” فذهبنا مع أبي. وهناك ترعرعنا مسلمين ومسيحيين من جميع الطوائف، ولم نكن نعرف القبلية، وكانت لا توجد كنيسة هناك، ولكن يأتي قسيس من “توريت” ليقود الناس في الصلاة، وكنا نحترم جميع الأديان.
بعد أن أكملت المدرسة الابتدائية في “كاتيرى”، تم نقلنا لمدرسة “لوى” للمبشرين، حتى جاء عام 1964م، وتم طرد جميع المبشرين، وكنت في الفصل الرابع في دراسة اللاهوت، فتم تخصيصي لأكون مدير كلية اللاهوت الصغرى، بدلاً من المدير الإيطالي الذي تم طرده حينها، وكان ذلك من أكبر التحديات التي واجهتها في حياتي.
حروب متتالية:
بدأت الحرب، وعلى الرغم من كوني صياد ماهر، وكانت لديَّ بندقية صغيرة وسلاح صغير قبل الحرب، بالإضافة لسلاح كبير لصيد الأفيال، إلا أنه عندما اندلعت الحرب، دمرت كل هذه الأسلحة، لأنني لا أريد تستخدم من قبل أي مواطن سوداني، لقتل أي مواطن أخر، مهما كانت ديانته أو قبيلته.
واشتدت الحرب في عام 1965م، و تم اغتيال الكثير من المثقفين في جوبا، وهرب أخرون ولجأوا إلى أوغندا وكينيا، فبقينا مع الشعب حتى التوقيع على اتفاقية السلام في أديس أبابا في سنة 1972م، وكان هناك فقط ثلاثة قسس في جوبا، والباقي هرب خارج البلاد.
ومرة أخرى اندلعت الحرب عام 1983م، عندما كنت مطران لراعية “توريت”، وفي هذه الحرب فقدت الكثير من الأرواح، ولان الحكومة كانت تقاتل المتمردين وليس لديهم مؤن، لذلك كان علينا أن نخدم الشعب في الأماكن التي نزحوا إليها، فأسست مجلس كنائس السودان الجديد مع مطران بور، والمطران نثانيال قرنق.
خدمة صعبة:
وبدأنا خدمة الناس في المناطق التي تسيطر عليها الجيش الشعبي، في ظل سقوط يومي للقذائف، وعندما كانت تسألني إذاعة البي بي سي: “مطران تعبان، هل أنت مع الجيش الشعبي؟”، كنت أجيبهم: ” لا، بل الجيش الشعبي هم هنا معي، لكني لست معهم!!”.
في عام 1988م، كنت عائدًا من روما، وكانت كل الطرق مغلقة، ووجدت الناس يموتون في “توريت”، ويدفنون في مقابر جماعية، فطلبت من الحكومة بإرسال قافلة محملة بمواد غذائية كانت تضم حوالي مائة عربة، وكان الجيش الشعبي مغتاظ من ذلك، ويقوم بقذف هذه العربات!!
قطعنا مسافة 84 ميل من جوبا إلى توريت خلال أكثر من شهر، فبدأنا التحرك يوم 21 مايو 1988م ووصلنا إلى توريت في 1 يوليو 1988م، وتم تدمير كثير من العربات على الطريق، وقُتل كثير من الناس، وكنت أقوم بدفنهم يوميًا على جانبي الطريق، وبثت إذاعة الجيش الشعبي بأنني كنت ضمن القتلى، لكن أشكر الله وصلت وأنا حي، وتمكنا بنعمة الله من من توصيل القليل من الغذاء، من جملة مائة عربة نصفها دمرت، وجرح فيها أكثر من مائة شخص، وقتل ستون منهم.
وفي فبراير 1989م، استولى الجيش الشعبي على مدينة توريت، وكانوا يعتقدون بأننا ندعم الحكومة، فتم أسرنا (أنا وثلاثة قسس أخريين)، ومكثنا في الأدغال لفترة مائة يوم، وكنا نتغذى فقط على حبوب مغلية من الذرة الشامي، وكنا نعاني بشدة، وامتلأت أجسادنا بالقمل، ولكننا كنا نصلي دائماً: “يا رب أغفر لهم لأنهم لا يعلمون ما يفعلون”، وبعد مائة يوم مصحوبة بضغوط دولية، تم إطلاق سراحنا، وعدنا لنخدم الشعب من جديد.
قرية السلام:
في عام 2004م، كنت في الثامنة والستين من عمري، وقد قررت التقاعد من إدارة الرعاية بتوريت، قبل سن التقاعد الرسمي بسبع سنوات، وذلك للبدء في “قرية السلام”، لأنني كنت أقول أننا كشعب جنوب السودان، نحتاج أن تغفر لبعضها البعض، وإيجاد نموذج لقرية تعاونية، يعيش فيها المسلمون والمسيحيون سويًا، فأسسنا قرية “كورون للسلام”.
وفي القرية، توجد مدرسة، بها أطفال ينحدرون من 24 قبيلة مختلفة، ومعظمهم كانوا يعيشون في ملاجئ محصنة ضد القنابل تحت الأرض، والبعض من هؤلاء الأطفال هم من صناع السلام الآن، ولا ينادون على أنفسهم بقبائلهم، بل على أنهم جنوبين سودانين أو سودانيين، لأننا جمعياً كبشر أبناء وبنات أب واحد في السموات، ونحن جمعياً مخلوقين على صورة الله.
والآن بعد أن تقاعدت، تلقيت العديد من الجوائز من الأمم المتحدة في جنيف من بان كي مون أمين عام الأمم المتحدة السابق، وتلقيت جائزة من رئيس أساقفة “كانتبري”، وتحصلت أيضًا على جائزة العبادة من مؤسسة “روزفلت” بمملكة النرويج، ومعظم هذه الجوائز تقديرًا للعمل الإنساني من أجل المساواة في كل الأديان.