الأمر صعب جدًا؛ المتقدمون كثيرون، والمقبولون قليلون، وأنا لا وساطة لي ولا قوة ولا نفوذ، ولكن عندي ما أهو أهم من ذلك؛ الإله المحب القدير، الذي يحميني ويرفعني من أصعب اضطهاد رأته عيني.
بداية بسيطة:
اسمي فائز صمويل ماركو، من مواليد عام 1960م بمدينة جوبا، ولكني ترعرعت في مدينة “كبويتا”، حيث بدأت المرحلة الدراسية هناك، ولكن كنا دائمي التنقل من مكان لمكان بسبب عمل والدي، حتى استقرينا في مدينة جوبا.
نشأت كشخص رياضي، وفي مرحلة الشباب، لعبت كرة القدم بشكل أساسي، وكنت عضو بفريق “كتور كنتاج”، وكان يلعب في دوري الدرجة الأولى.
في أثناء فترة وجود حكومة السودان في الجنوب، كنت نتمنى ونحن شباب، أن نكون ضباط جيش وشرطة، ولهذا فبعد أن أكملت المرحلة الثانوية، قدمت لأنضم إلى الكلية الحرية، وكان هذا الأمر صعبًا جدًا بالنسبة للجنوبيين.
وقتها تقدم للالتحاق بالكلية ما يقارب 6000 شاب من جميع أنحاء السودان، وتم إبلاغنا بأن العدد المطلوب لهذه الدفعة 410 طالب فقط!! وهذا يعني أن أكثر من خمسة ألف طالب سيكونوا خارج المنافسة، وكانت تأتي شخصيات كبيرة، لتكون بمثابة واسطة لتسهيل دخول بعض الطلاب للكلية.
أما أنا، فقد وضعت أملي فقط في الرب، ولم يكن لدي من يتوسط عني، بالإضافة لكوني من الجنوب، ولكن كنت أؤمن أن الرب يستطيع أن يفعل لأي شيء، ولذلك تقدمت بطلبي للالتحاق بالكلية.
معاينات صعبة:
بعد تقديم طلب الالتحاق بالكلية الحربية، أجريت امتحانات وفحوصات لمدة عامين بإدارة السلاح الطبي، وفي بعض المرات عندما كان يدخل الطبيب المختص، كان ينظر من مسافة بعيدة، وقبل أن يقترب مني، يقول: “أمشي”، بمعنى عود أدراجك، دون أن أعلم ما هو المقصود بذلك.
ثم يقول لي: “واظب على قراءة الإعلانات بالجرائد اليومية، لمعرفة ما إذا كان اسمك قد ورد ضمن الذين اجتازوا الفحوصات للدخول الكلية، وإذا لم تجد اسمك فهذا يعني بأن طلبك قد رفض!”.
تحقيق الحلم:
وبعد فترة طويلة جداً ظهر اسمي في الكشف النهائي للطلاب لدخول الكلية الحربية، وذلك في يوم 12 فبراير 1988م، وانضممت للدفعة 39، و اختبرت وقوف الله مع المعدمين والضعفاء أمثالي.
كان التدريب في الكلية بنسبة لنا مرحلة صعبة، لأن كانت هنالك خطة لطردنا من الكلية بأي ذريعة، لكننا كطلاب جنوبيين تحملنا كل الصعاب والإساءات، لأنه كان لدينا هدف نريد أن نحققه.
وتخرجت من الكلية عام 1990م، وبذلك تحققت أمنيتي بمشيئة الرب أن أكون ضابط في الجيش، وكانت هذه مرحلة جديدة في حياتي، وانتقلت من الحياة المدنية إلى العسكرية، بكل ما فيها من نظام وانضباط.
أمر غاشم:
في أحد الأيام، وأنا هناك في منطقة الكرمك، لاحظت أن بعض الجنود كان يتم إرسالهم لجلب الحطب والقش من الخلاء، فسألتهم: “ماذا ستبنوا بكل هذا الحطب والقش؟”، فردوا: “سنبني مسجد للصلاة”، فقلت لهم: “هذا جميل”، فسألت: “هل هناك جنود مسيحيين هنا غيري؟”، فأجابوا: ” هناك ما بين عشرة إلى خمسة عشرة من الجنود المسيحين”، فقلت لهم: “عظيم …غدًا سنذهب لجلب الحطب والقش لنبني لنا كنيسة”، فذهبت إلى قائد المنطقة، فقال لي: ” ماذا تريد أن تفعل؟”، فقلت له: “يا سعادة القائد نريد أن نبني لنا كنيسة”. فأصدر أمر بعودتي للدمازين مرة أخرى!!
حماية الله:
في تلك الفترة لم نكن أقوياء في الإيمان، لكنني كنت أعلم أنني من أسرة مسيحية، وبحسب فهمي وقتها، كنت أريد أن أدافع عن العقيدة التي أسير على دربها.
حاولوا بكل الطرق والوسائل “لتصفية” الجنود المسيحيين؛ ومنهم أنا بالطبع، سواء عبر التسمم أو أي شيء سيء أخر، ولكن فشلت كل المحاولات في الحد من عزيمتنا.
وكنت أقول لنفسي ولاخوتي، أنه كما دفع المسيح الثمن الغالي وصلب من أجل خطايانا، فإننا كمسيحيين لابد أن ندفع ثمن تبعيتنا له”.
وأشكر الله، لأنه وقف معي، ودافع عني ضد كل شر ضدي، وأبقاني على قيد الحياة، وكان الرب أمامي دائمًا في عملي، وأشكر الله أنني لم أقتل أي إنسان، ورغم كل التحديات، قررت ألا أتزحزح عن إيماني؛ فأنا مسيحي، وطالما أن الله معي، وهو الذي أوجدني في هذا المكان، فهو سيتكفل بأي أمر صعب يواجهني.
بداية الخدمة:
وعندما كنت في الدمازين، جاءتني رؤيا، وأن شخصًا يقول لي: “إلى أين ستذهب بهذه الدبابير اللامعة؟”، وكرر السؤال مرتين، ولما استيقظت شاركت زوجتي بما حدث، وكنت أعلم أن هناك نداء من الرب لأخدمه.
كنت أعرف أني شخص صعب الصفات، وأنني أخر شخص يمكن أن يخدم الله، لكنني تذكرت وقتها ما قالته لي والدتي مرة، وهي تعطيني الأموال التي جمعتها للكنيسة، وقال لي: “يا ولدي في يوم ما، أنت الذي ستطلب من الناس أن يدفعوا للكنيسة”، وحين تذكرت هذا، زرفت الدموع.
بعد ذلك قررت أن أدرس اللاهوت بكلية المطران قوين، لفترة سنتين ونصف، وبعدها تغيرت حياتي للأفضل؛ فبدأت أتعاطف مع معاناة الناس، وأنصح الناس لتجنب الشر وفعل الخير، وأشكر الله أن قوة الرب تعمل بي، وأنتم ترونني اليوم وأنا قسيس وأخدم في الكنيسة، وتعلمت أن الرب هو الذي يحميني، وليس أي شيء أو شخص أخر.